مقتطفات صحفية

 الاقتصاد هو السلاح!! - بقلم د. ماجد منيمنة 

 
 

- اللواء -

قيل الكثير بشأن لبنان والحضارات الفينيقية المتعاقبة منذ ما يزيد عن 6000 سنة, وقيل أكثر عن طبيعته الساحرة وما تحتضن من بحر وشواطئ وجبال وثلوج ومياه وغابات وسهول ومحميات خضراء طبيعية, ولكن رغم كل ما قيل وما يُبدّد من جهد وتعب وحبر وورق وهتافات وشعارات على المنابر الإعلامية, فإن الأحداث الأمنية هي دوماً الحاضرة الأولى في تاريخ الحضارة اللبنانية والتي تتخللها دائما مناورات عسكرية في الشوارع والزواريب لتبرز من جديد أهمية السلاح في أيدي اللبنانيين.
وتؤكد الدراسات الإعلامية أن رواج سلعة معينة لا يتوقف على مجرد الإعلان عن وجودها وعرض مزاياها, بل أن الرواج الأمثل إنما يتحقق بقيام ثقافة مساندة للسلعة تضمن لها دوام وتصاعد الطلب عليها. ويتطلب لمثل تلك الثقافة ابتكار خريطة الوعي بما تتضمنه من معايير وقيم واتجاهات بحيث يصبح الطلب على تلك السلعة جزءاً لا يتجزأ من نسيج تلك الثقافة.
ولعلنا لا نضيف جديداً إذا ما ذكرنا أن صناعة الأسلحة تُعدّ من أضخم مجالات الصناعة وأكثرها ربحية، ولذلك فمن الطبيعي أن تسعى تلك الصناعة لدعم الثقافة التي تساندها وتساعد على ترويجها، وأن تُجنّد لنشر ثقافة الحرب, تراثاً ضخماً من مختلف العلوم الإنسانية وعلى رأسها الإعلام وعلم النفس بل والتاريخ أحياناً. وهكذا شهدنا عبر سنوات طوال, ملايين الأفلام والكتب ودواوين الشعر، بل والدراسات العلمية، التي تصبّ جميعها في تقديس العنف واعتباره جوهر الطبيعة الإنسانية والسبيل الأوحد للحصول على الكرامة والاحترام والحفاظ على الحقوق وحفظ موازين القوة.
لقد ازدهرت تلك الثقافة، وضربت بجذورها كافة نواحي الحياة، بحيث لم يعد أمام الدول والجماعات مهرب من الحصول على الأسلحة حتى لو لم تكن تخطط لقتال، فعليها دوماً تكديس الأسلحة لكي لا تُغري أحدا بالاعتداء عليها، وبحيث تستمر تجارة السلاح في الازدهار تحت كافة الظروف. وما أن تشتعل المعركة حتى يبلغ ذلك الازدهار أوجه ولا يقتصر تدفق الأرباح آنذاك على منتجي السلاح فحسب، بل يشمل العديد من المهربين وتجار السوق السوداء وغيرهم، ومما يدعم ذلك أن مناخ الحرب، بما يفرضه من سرية، خاصة في ما يتعلق بصفقات الأسلحة وعمولاتها, يشجع على استشراء الفساد، بعكس ما ينبغي أن يفرضه مناخ السلام من شفافية تُتيح، على الأقل، فضح الفاسدين والمرتشين، ولعلنا ما زلنا نذكر تعبيراً شاع بيننا عن «أغنياء الحرب»، أي أولئك الذين ظهرت عليهم مظاهر الثراء فجأة بفضل مناخ الحرب والسوق السوداء، غير أن «أغنياء الحرب» هؤلاء لا يحتلون سوى ذيل قائمة أغنياء الحروب الحقيقية من الدول المصدرة للسلاح الفتاك.
لقد أصدر الصحافي البريطاني «جدوين باروز» كتاباً بعنوان «صناعة السلاح»، استخدم فيه تعبير «المجموعة القذرة»، مشيراً إلى قائمة الدول التي تتصدر صناعة السلاح وتتربع الولايات المتحدة على رأسها، تليها روسيا، ثم فرنسا، ثم بريطانيا، ثم ألمانيا، ثم الصين ثم هولندا وبلاد أوروبا الشرقية، حيث تستأثر تلك الدول الست الأولى بتصدير 85%  من السلاح في العالم، وتحتل إسرائيل المرتبة الثانية عشرة من تلك القائمة، والمثير للانتباه أن الدول الأربع التي تتصدر تلك القائمة أعضاء دائمون في مجلس الأمن المسؤول عن «السلام العالمي».
نستطيع في ضوء ما تقدّم أن نفهم مصدر تلك المقاومة الشرسة التي تثيرها الدعوة لثقافة السلام، فهي في النهاية مجرد ثقافة لا تستند إلى صناعة تدعمها وترعاها، شأنها في ذلك شأن ثقافة الطب الوقائي في مقابل صناعة الأدوية، وثقافة حماية البيئة في مقابل الصناعات الملوثة للبيئة كما السلام مقابل الحرب. صحيح أن مجموع أعداد الناشطين في مجال ثقافة السلام في العالم لا يمكن أن يقارن بأعداد العاملين في أجهزة القتال والأمن في الولايات المتحدة الأميركية وحدها مثلاً، وصحيح كذلك أن تمويل أنشطة السلام، بل وحتى أنشطة التعليم والرعاية الصحية لا يمكن أن يُقارن بتلك المليارات التي تُنفق على صناعة وتجارة السلاح، وصحيح كذلك أن الدعوة لثقافة السلام تتعرض دوماً لمحاولات التزييف والتهجم ووصمها بأنها ليست سوى دعوة لاستسلام المظلوم للظالم، وأنها نقيض لثقافة المقاومة، ورغم كل ذلك فإن ثقافة السلام، ما زالت رغم كل شيء، تحاول الاستمرار على بث روح الحياة مستندة إلى محاربة الدمار الذي تحدثه تكنولوجيا الأسلحة المتطورة، وما تنذر به أسلحة الدمار الشامل الأكثر تطوراً، مما يؤدي إلى ضرب الاقتصاد وإلى خسائر ودمار في الممتلكات والأرواح.
أما في ما يخص لبنان والمشروع الإقليمي الذي ترعاه ايران بواسطة حزب الله الشريك في الوطن, فإن إيران ليست بدولة ذات تطلعات سياحية تنتظر موسم السياحة كي توفر فرص عمل لمن يعيش داخلها كما هو الحال في لبنان، وكما تخطط دول مجلس التعاون الخليجي، ولا هي حتى تتنافس مع الدول الجوار على جلب السُياح, بل هي جمهورية لديها مشروع إقليمي واضح المعالم وتسعى من خلاله إلى التأثير على القوى العظمى، بالإضافة لبرنامج نووي قريب التحقيق، ثمة في الجهة الأخرى حقيقة ليست أقل شأناً, أن السعودية ومجلس التعاون الخليجي تراكمت لديهم، خلال السنوات السابقة، قوة اقتصادية ونفوذ مالي عالمي يضاف إليه قوة عسكرية تعتبر الأقوى من حيث التجهيز، مما أعطى المملكة السعودية الدور الأكبر بعد سقوط النظام العراقي في حل كثير من القضايا العربية، وعلى رأسها تبنيها مبادرة السلام العربية، مما جعل للسلام مع إسرائيل سقفاً من الصعب تخطيّه، ليأتي الرهان الأميركي - الإسرائيلي على تجزئة الدول العربية إلى كيانات صغيرة بحيث يتم تهجير الصراع من سياقه التاريخي مع إسرائيل إلى سياق جغرافي مصطنع الذي نجحت بتنفيذه, والذي يُضعف الطرفين ويفرغهما من قوتهما تماماً كما فُعل مع العراق، وتنتهي إمكانياتهما في تجزئتهم تحت ذرائع الإثنية والطائفية، مما يُعيد لإسرائيل مكانتها المتفوقة عسكرياً واقتصادياً والتي باتت تفقدها مع تعاظُم الدور الاقتصادي للدول التي من حولها ذات جغرافية شاسعة وديمغرافية هائلة والذي يجعل الاستحالة الا العيش بتفوق دائم معها .
لذلك، وفي هذا الوطن الصغير، إذا ظلت ثقافة السلاح وحدها تطغى على مفهوم الثقافة الانمائية والثقافة الاقتصادية, لتتصدر دائما المعارك العسكرية ساحاتنا المحلية, سوف نعود إلى العصور الغابرة وإلى ما قبل 6000 سنة من ميلاد لبنان، لأن مفهوم «السلاح زينة الرجال» يطغى على مفهوم «دعه يعمل دعه يمر» والمفهوم احادي للمقاومة العسكرية المستمر لا يبني اقتصاداً يكون رافعاً لخزينة الدولة!!
إن رهان المرحلة المقبلة يكمن في وجود منظومة سياسية - اقتصادية متكاملة من حيث النظرية والتطبيق تهم الفرد كما المجتمع، هادفة إلى تقبّل كل أطياف المجتمع, بمعنى مشروع قائم بذاته يحتوي على أفضل الصيغ لاحترام الطوائف والثقافات ولخلق التفاعل التام المتكافئ بينها من دون إلغاء أي منها بحكم أن لكل رؤية قدراً من الصواب, وفيه العدل الاجتماعي ضمانة التعايش الوحيدة ورهان الدعامة الأولى للاستقرار المالي والاقتصادي. وهنا يمكن أن نلتفت لمثال أبناء الوطن عندما يهاجرون ويستقرون ببلاد المهجر الغربية المتقدمة, فإنهم في غالب الأحيان ما ينساقون مع النظام العام والجاري به العمل وحتى لو كان مخالفا لمعتقداتهم وتعاليمهم الدينية, فيكتسبون من سلوك الشعوب هناك في ما يخص قيم المواطنة والتعاملات في أوساط المجتمع المتقدم كرد فعل طبيعي لما يحيط بهم من قوانين وأجهزة تحكم العلاقات العامة والخاصة وترمي إلى إحقاق العدالة الاجتماعية في إطار تعاقد تشاركي هدفه المجتمع القوي البنَّاء المتماسك. أمن الصعب تطبيق كل هذا  في حضن وطننا الصغير؟ أو أن هنالك من قوة عسكرية ممسكة دائماً بمحاور هذا التقدم وبقوة السلاح ليصبح الاقتصاد من آخر الهموم لديها؟

* خبير مالي ومحلل اقتصادي.
* دكتوراه في المالية الدولية.