مقتطفات صحفية

 الاقتصاد بحاجة أيضاً لحراك 

 
 

مكرم صادر  - (اللواء)

(]) الأمين العام لجمعية المصارف

كل المؤشّرات الاقتصادية والمالية تسجّل تطورات سلبية. ولسنا طبعاً بحاجةٍ إلى تقارير المؤسّسات الدولية أو وكالات التقويم العالمية لنعرف ذلك. ونكتفي بالإشارة إلى بعضٍ من المؤشرات. فليس طبيعياً أن يسجّل ميزان المدفوعات خلال الأشهر السبعة الأولى من السنة الحالية عجزاً مقداره 1317 مليون دولار مقابل فائض فاق 130 مليوناً في الفترة ذاتها من العام 2014: بالرغم من كون الميزان التجاري (استيراد وتصدير السلع) قد سجَّل حتى تموز 2015 عجزاً مقداره 8545 مليون دولار أدنى من العجز المسجَّل حتى تموز 2014 (10004 مليون دولار)، أي بفارق 1459 مليوناً وأقلّ بنسبة 14.6%!! ويعود ذلك إلى تراجع التدفقات المالية إلى البلد، وبخاصة الاستثمارات المباشرة وفي المحافظ. وحركة تبادل الأسهم المدرجة في البورصة على قلّتها المُخزية خير مؤشّر على هذا الصعيد. كما أن نسبة نمو ودائع غير المقيمين لدى الجهاز المصرفي تراجعت من 3.1% في الأشهر السبعة الأولى من العام 2014 إلى 2.8% في الفترة ذاتها من العام 2015، بل إن نسبة نمو ودائع المقيمين سجَّلت في الفترتين المذكورتين تراجعاً من 4.06% إلى 2.7%!..
أما عجز المالية العامة، وهو الأخ التوأم للعجز الخارجي، فقد ارتفع خلال النصف الأول من العام 2015 مقارنةً مع العام 2014 بما مقداره 313 مليار ل.ل. وما نسبته 13.2%! ونتج العجز في المالية العامة عن ضعف الإيرادات أكثر منه عن زيادة النفقات؛ علماً أن استقرار الأخيرة يعود إلى تراجع التحويلات لمؤسّسة كهرباء لبنان من 1565 مليار ليرة إلى 946 ملياراً، أي بما نسبته 40% عاكساً تراجع أسعار النفط بشكل أساسي.
ويؤشّر هذان العجزان، الداخلي والخارجي، من جهةٍ، إلى تراجع كفاءة الاقتصاد اللبناني وقدرته التنافسيّة جرّاء الغياب الفاضح في معظمه لآليات عمل الدولة (البنى التحتية، الإدارات والمؤسسات العامة) ويؤشر، من جهة ثانية، إلى ان الإدارة المالية للبلاد قاصرة عن إرساء أيّة إصلاحات على مدى ربع قرن منصرم من جمهورية الطائف.
وهكذا عند الكلام على تطوير (أو تغيير!!) النظام السياسي، يحضر إلى الذهن تطوير (أو تغيير) النظام الاقتصادي. فكلاهما، السياسة والاقتصاد، في علاقة عضوية. ويتعذّر تغيير النظام السياسي الطائفي حتى العظم، ضمن ميزان القوى القائم، غير أن الحراك الشبابي المحقّ والمشروع والأخلاقي قد خلخل الأسس التي بُنيَ عليها النظام وأفقده بعين الشباب (أهل الغد) مشروعيّته بل أخلاقيّته. ويأخذ أهل الحراك ـ أهل الثورة في مكان ما ـ على النظام السياسي أقلّه ثلاثة مآخذ:
فقد أرسى هذا النظام بدايةً الفساد بأبشع أشكاله وبأوسع مدى حتى بات والفساد توأمين لا ينفصلان ويغطّيان الحيّز العام بأكمله والخاص بمعظمه. ثمَّ احتكر أهل النظام سلطة الدولة من الأمن إلى القضاء إلى الإدارات والمؤسّسات العامة والمؤسّسات شبه العامة كالضمان الاجتماعي. لا يتورّعون عن نهبها واستباحتها واسعاً وعميقاً. فتصبح أداتهم أو مدخلهم (أو مخرجهم) لتقوية الفساد بعدّة الطائفية. فلا يُعيَّن ناطور في ديرةٍ أو حارس في معبدٍ إلاّ برضى منهم لئلاّ نقول بإذنٍ منهم. وسدَّ أخيراً أهل النظام حتى الحراك الاجتماعي وأهانوا العمل وقِيَم العمل. ومَنْ أراد الترقّي ليس أمامه إلاّ التطلّع إلى الخارج القريب (الخليج) أو البعيد (كندا...) حسب استهداف المداخيل أو الاندماج أو كليهما معاً. فأهل النظام سدّوا آفاق الاجتماع وكذلك آفاق الاقتصاد. فالوظائف العامة والوظائف المعروضة من القطاع الخاص لا تتطلّب تخصّصاً إلاّ ما قلَّ، ولا ترفع مستوى معيشة إلاّ لمَن دخل جنّة الفساد وتماهى مع المفسدين من أهلها. وبهذا تحقيرٌ لقيم العمل كما ذكرنا.
ولمّا كان الاقتصاد من السياسة، فقد بات النظام الاقتصادي يعمل، وأكاد أقول بالكامل، لمصلحة النظام السياسي، أي لمصلحة نظام الفساد. فليس معقولاً أن يكون في بلدٍ ما ثمّة نظام اقتصادي قادر على أداءٍ جيّد وعلى انتاجية عالية وعلى فعاليّة عالية بدورها بينما أداء أهل السياسة سيئٌ أو متدنٍّ. وبدل أن يقوى أهل الاقتصاد على أهل السياسة باتوا في تبعيّة يصعب الفكاك منها. وصار القطاع الخاص في شراكةٍ عملياً مع القطاع العام. يستفيد الأول من فساد الثاني: المناقصات، جباية الضرائب والرسوم.. الشراكة في نعيم ونِعَم الزبالة؛ اقتطاع الأملاك العامة البحرية والجبليّة لاستخدامات خاصة؛ تفتيت الجبال وطحن حجارتها بأبشع الصور وأوضحها!.. نهب المرافئ العامة من المطار إلى مرفأ بيروت وغيره.. استباحة الحدود لإمرار كل أنواع البضائع والسلع ليس فقط دون أداء الرسوم الجمركية عليها إنما كذلك دون احترام القواعد الصحية أو البيئية وضرب معايير السلامة عرض الحائط!... وقد تمَّ استبدال أسس النظام الحرّ المفترض أن يقوم على التنافس في إيصال السلع والخدمات بأفضل نوعية وأدنى الأسعار بحماية أهل السياسة. فتوسّعت المواقع الاحتكارية وتوسّع معها نظام تبادل المنافع وعلى حساب الناس في معظم الأحيان. ومع الوقت، رحلت معظم الشركات الجيّدة والمقاولون الأكفياء وأصحاب المبادرات المبادرين عن السوق اللبنانية لانعدام فرص التنافس وبسبب استشراء الوساطات وسياسات التلزيم المكلفة حيث يذهب أكثر من نصف مبالغ الأشغال العامة على سبيل المثال لجيوب الوسطاء. فالأعمال لا تُعطى إلاّ لمَن يدفع أكثر وليس لمَن عنده المهنيّة والحرفيّة وخلقيّات العمل.
يصطدم الحراك السياسي القائم في الشوارع والساحات بسؤال الناس عن البديل أو البدائل. ولا يسمع اللبناني العادي أجوبةً مقنعة، وبالتأكيد لا يرى على الأرض ما يرتاح له النظر والعقل. ومقولة «المندسّين والطابور الخامس والمشاغبين» ليست بديلاً عن الأجوبة المطلوبة والشافية لتساؤل الناس المشروع.
في حال نجح الحراك واستمرّ (واستمراره جزء من النجاح)، ليس واقعياً أن تصدر عن الجهات المنظّمة رؤية واضحة ومتكاملة للوضع النهائي الذي يمكن أن يقود إليه التغيير. فهذه من صلب وظائف الدولة بالتعاون مع المجتمع. والمطلوب اليوم أكثر أن تتمّ بلورة معالم المرحلة الانتقالية وليس النهائية. طبعاً، الانتخابات النيابية في ظلّ النسبية تشكِّل بداية حلّ وليس حلاًّ، إذ من المرجّح أن تعيد إنتاج معظم الطبقة السياسية والتي تقوم على المحاصصة التي تتغذّى بدورها من الطائفية. الطائفية تحمي الفساد أو معظمه وتتآلف معه غداً أكثر من اليوم!..
وإذ نترك لشبيبة الحراك ما أعلنوه من تغييرات يتمنّونها في السياسة، نرى أن معالم المرحلة الانتقالية في الاقتصاد يمكن أن ترتكز إلى ثلاثة محاور أساسيّة تصبّ كلّها في إعادة صياغة أو تصويب الوظائف الاقتصادية والاجتماعية للدولة.
فلا بدَّ من أن تتوجّه المعالجة في المحور الأول إلى مسألة التهرّب الضريبي الواسع جداً والمقدَّر ببضعة ملياراتٍ من الدولارات. والواقع أن الطائفية والفساد المستشري بكلّ مستويات ومفاصل السلطة السياسية يحميان عملية نهب الدولة من خلال التهرّب الضريبي. وتكمن أهمية استعادة حقوق الدولة برسومها وضرائبها المنهوبة في إعادة تخصيصها لتحسين الخدمات العامة من الماء والكهرباء إلى المواصلات إلى الخدمات الصحية والحفاظ على البيئة ووقف تلوث الأنهر والشطآن. من الضروري أن يرتكز المحور الثاني على معالجة الأداء والفعالية المعدومة للإدارات والمؤسسات العامة والمؤسّسات المسمّاة مستقلة، ويندرج الدور التنموي والاجتماعي للبلديات في إطاره. في الحقيقة، يشكِّل النهوض بهذه المؤسّسات مدخلاً، من جهة أولى، الى تحسين الخدمات العامة للناس، ومن جهة ثانية، الى تحسين أداء قطاع المؤسّسات الخاصة وتالياً تشجيعها على التوسّع والاستثمار وخلق فرص عمل جديدة للشباب الذي أبدى في أحد أوجه تحرّكه المحقّ رفضاً لضيق فرص العمل في الحيّز الوطني ورفضاً للهجرة المُذِلّة والاستمرار في استجداء تأشيرات الدخول على أبواب السفارات. وتندرج مسألة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي في هذا الإطار بالذات. فبدل أن تكون هذه المؤسّسة الهامة مثالاً للمؤسّسات العامة أداءً وفعاليّةً باتت من أسوئها في قنوات الهدر والفساد. وبدل أن تُرسي مشاريع يفيد منها المضمونون، تحوّلت إلى « قجّة ادخار» يتآكل أموالها التضخّم وتدنّي القيمة الشرائية. المفترض إصلاح الضمان الاجتماعي إدارةً ومجلس إدارة ولجنةً ماليةً، ومن ثمَّ توسيع تغطيته الصحية للمضمونين، وكذلك إصلاح إدارة النفقات الصحية المخصّصة من خلال وزارة الصحة وغيرها والتي هي موضع فساد وإفساد كبيرين مهما حاول البعض تغطية السموات بالقبوات!..
ويكمن المحور الثالث للمعالجة في المرحلة الانتقالية في استعمال أفضل للعديد من أوجه الإنفاق العام. ومنها الميزانيات ذات الحجم الهائل نسبياً المخصّصة للتعليم والصحة والأشغال العامة، بما فيها مجلس الإنماء والإعمار.
ففي ذلك تأكيد على دور الدولة الاجتماعي والإنمائي. يُضاف إلى ذلك أن ترشيد هذه النفقات لا يرتبط به أو ينتج عنه أيّة أعباء مالية إضافية، بل على العكس، فالنجاح به يُقلِّص العجز العام والمديونيّة ومسارب الفساد وتدفّقاته.
الاقتصاد يحتاج أيضاً إلى حراك. فالأفق السياسي والاجتماعي المسدود يعود في بعضه غير القليل إلى الوضع الاقتصادي القاصر عن خلق فرص عمل والقاصر عن توليد مداخيل كافية والقاصر أخيراً عن توفير فعاليّة بالحدّ الأدنى المقبول لاستعمال الموارد المتاحة العامة منها والخاصة ولتوظيف عناصر الإنتاج بكفاءة. إما أن يكون الإصلاح عاماً، أي في السياسة والاجتماع والاقتصاد، أو يكون محكوماً عليه بالفشل. لقد آن الأوان لأصحاب العمل وللهيئات الاقتصادية أن تقف على الأقلّ إلى جانب إصلاح آليات عمل النظام السياسي والاقتصادي في لبنان. ففي ذلك وحده ضمان لمستقبل المؤسّسات ولاستمرارية النظام الحرّ الذي يؤمنون به!.. ذلك أن هذا النظام كأيّ نظام اقتصادي واجتماعي يحتاج إلى دولة تقيم له إطاراً ناظماً وتصحّح اختلالاته إن وقعت وتتحمّل ما يُعرَف بالأكلاف الاجتماعية العامة غير القابلة للتوزيع وتالياً لتحميلها للقطاع الخاص.