مقتطفات صحفية

 فرنسوا باسيل لـ«الجمهورية»: «أحلم بلبنان الدولة لا الدويلات» 

 
 

جريدة الجمهورية


عندما نقش الفينيقيون على ناووس الملك أحيرام تلك الأشكال البدائية التي صنعت مجد بيبلوس، لم يعلموا أنّها يوماً ستُصبح منارة تواصل لشعوب العالم قاطبة. وبعد مرور آلاف السنين، وبعد أن أبحر من شطآن بيبلوس مبدعون فاق عددهم حروف الأبجدية بكثير، لم تعلم المدينة أنّه سيولد من رحمها إبن يقترض إسمها من الخريطة الجغرافية لينقشه على خريطة العالم المصرفية.

ولم يعد بيبلوس مجرّد إسم مدينة تفترش البحر في شمال لبنان، وإنّما إسم مصرف أصبح عنوان ثقة ونجاح لكلّ لبناني. وفي ذاك المبنى الأزرق المتعملق في قلب العاصمة بيروت، وتحديداً في الطابق 17، يدير رئيس مجلس إدارة ومدير عام بنك بيبلوس الدكتور فرنسوا باسيل إمبراطورية مصرفية، ويحلم ببلد يمتهن فيه اللبنانيون فنّ المواطنية، ليبنوا وطناً يليق بإسم لبنان العظيم.

شيطنات وحشرية

وفي حديث خاص مع "الجمهورية" غابت الأرقام وتعقيداتها المنهكة للسامع والقارئ عن كلام فرنسوا باسيل الذي اختار الغوص في سديم ذاكرة مشحونة بالمحطّات ليصطاد لنا قصصاً وتفاصيل وقفت في الماضي خلف مشوار البداية.

أعاد السؤال الأوّل عقارب الساعة إلى الوراء، وذهب معه فرنسوا باسيل إلى شيطنات الطفولة وحشرية إبن الفيدار الذي كان يهوى في كثير من الأحيان الاستغناء عن اللعب لمرافقة والده في مشاويره الاجتماعية، ليعاشر الكبار ويستمع إلى أحاديثهم، لعلّه يضيف نضجاً إلى أحلامه الكبيرة.

وكان فرنسوا باسيل منذ البداية محبّاً للعمل والجدّ، وقد عمل طوال حياته وفق مقولة: "بقدر الكدّ تكتسب المعالي ومن طلب العلا سهر الليالي، ومن رام العلا من غير كدٍّ أضاع العمر في طلب المحال". وهكذا بدأ فرنسوا اليافع العمل في معمل العائلة أيّام العطلة وفي موسم الصيف مقابل ليرة واحدة يوميّاً، فاكتسب مهارة إدارة "ثروته الصغيرة"، وأدرك معنى الكدّ والجهد لشرف العيش معكوساً بقطرات متلألئة على جباه عمّال كادحين.

مصرف بدائي

أحبّ فرنسوا باسيل خلال نشأته الحياة الاجتماعية والاختلاط بالناس، فطمح منذ البداية الى العمل في المجال السياسي، وعلى هذا الأساس اختار اختصاصه الجامعي، فتوجّه لدراسة الحقوق في بلجيكا وتخرّج بشهادة دكتوراه في القانون من جامعة لوفان.

لكنّه يكشف في حديثه لـ"الجمهورية" أنّه خلال دراسته في بلجيكا تعرّف على مجموعة من الطلاب الذين كانوا يحضّرون أطروحتهم الجامعية حول العمل المصرفي، وأيقظت أفكارهم فيه رغبة للعمل في المجال المصرفي، وبعد أن أنهى شهادة الحقوق حصل على شهادة في العلوم الاقتصادية والتجارية.

وخلال مسيرته العلمية، بدأ فرنسوا باسيل العمل في شركة العائلة التي تأسّست عام 1950، وكانت "بيبلوس باسيل إخوان وشركاؤه" شركة تجارية زراعية مركزها مدينة جبيل، تتعاطى تجارة السماد الكيماوي وتبيعه للمزارعين بالدَين في المواسم وتقدّم سِلفَاً موسمية للمزارعين.

كما كانت تمنح قروضاً شخصية للحِرَفيّين من أبناء المنطقة. وفي عام 1956 تعدّل نظام الشركة لتصبح شركة محدودة المسؤولية، فحصلت على رخصة من وزارة المالية سمحت لها بفتح حسابات توفيرية وإصدار كفالات لصالح المتعهّدين، وهكذا بدأت العائلة العمل المصرفي وإن بشكل بدائيّ.

ويكشف فرنسوا باسيل أنّه في تلك الفترة كان يتابع دروسه الجامعية في بلجيكا، وكان يزور لبنان في فصل الصيف، فكان ينضمّ للعمل في الشركة العائلية ليكتسب المزيد من الخبرة في هذا المجال.

حلم الطفولة

وفي عام 1959 بدأت تراوده فكرة تحويل شركة والده المتمركزة في جبيل إلى مصرف وطني. لكن في انتظار بلورتها وإنضاجها، أدار أشرعته ناحية حلم الطفولة الذي كان لا يزال يدغدغ طموحه وهو خوض غمار الحياة السياسية، فترشّح عام 1960 للانتخابات النيابية في وجه ريمون إده، لكنّه فشل في الحصول على المقعد النيابي، إنّما فاز بأصوات أكثر من 3000 ناخب، وهو رقم كبير في حينه.

ويستذكر فرنسوا باسيل مع هذه الانتخابات حادثة زيارته الرئيس فؤاد شهاب عقب صدور النتائج الذي قال له: "الله يساعدك يا إبني مع أكلة الجبنة". وكانت خبرة الانتخابات عام 1960 بمثابة الإنذار الكبير الذي دفع بفرنسوا باسيل إلى إعادة حساباته.

فهذا الرجل الذي دأب على العمل الشاق والسهر في سبيل النجاح والتقدّم، والذي تعلّم من خلال تجربته الأوروبّية أنّ السياسي يجب ألّا يفكّر في مصلحته الشخصية وإنّما بمصلحة المجتمع الذي يعيش فيه، اكتشف أموراً كثيرة في السياسة اللبنانية، أبرزها مسألة "الواسطة" والاستغلال الانتخابي، ما دفعه إلى العدول عن حلمه والتوجّه بكامل قدراته نحو العمل المصرفي الذي وقع في حبّه بعد أن عمل في مصرف في لبنان.

«بيبلوس» مصرف وطني

وفي عام 1962، وبأحلام وأهداف واضحة، عاد فرنسوا باسيل إلى لبنان مستعيداً أفكار الماضي، وحوّل بقناعاته شركة العائلة إلى "الشركة المصرفية الزراعية بيبلوس باسيل إخوان وشركاؤه"، برأسمال قدره مليونا ليرة لبنانية مركزها مدينة جبيل.

وبعدها بفترة وجيزة انتقل إلى مدينة طرابلس، حيث أمضى عامين أسَّس خلالهما فرعاً مزدهراً للشركة في عاصمة الشمال. وعلى رغم النجاحات كان فرنسوا باسيل يضع العاصمة بيروت نصب عينيه، لأنّه كان مؤمناً بأنّها المكان الأفضل للاستثمار في هذا المجال.

وبما أنّ شركاء العائلة لم يريدوا خوض المغامرة والمخاطرة بالانتقال إلى بيروت، يكشف فرنسوا باسيل أنّهم عرضوا عليه شراء حصصهم، وبما أنّه كان يفتقر إلى السيولة اللازمة، اشترى تلك الحصص بواسطة قرض ماليّ على مدى 5 سنوات.

وانتقل بذلك مركز الشركة من جبيل إلى بيروت، حيث لعبت علاقات العائلة الاجتماعية دوراً جوهريّاً في تثبيت الشركة في العاصمة التي انطلقت فيها الأعمال رسميّاً عام 1964. ومنذ ذلك الحين، لم يوقف مركب النجاح إبحاره، لا عند موجة حرب طائفية ولا في نوّ توتّرات أمنية، بل واصل بقيادة قبطانه الباسل اختراق المصاعب ليصبح أحد أهمّ المصارف على الأراضي اللبنانية.

... وعالمي

ومن لبنان حمل راية بنك بيبلوس إلى أوروبا، فأنشأ بنك بيبلوس أوروبّا في بلجيكا عام 1976، ثمّ أنشأ فرعين له في المملكة المتّحدة وفرنسا. وفي عام 1984، أنشأ فرع لبنك بيبلوس في قبرص. كما بدأ عام 2003 بإرساء حضور بنك بيبلوس في القارّة السوداء من خلال إنشاء بنك بيبلوس أفريقيا في السودان. ثمّ سعى إلى خدمة الزبائن في الخليج العربي من خلال مكتب تمثيلي في أبوظبي أطلِقَ عام 2005، الذي شهد أيضاً انطلاقة بنك بيبلوس سوريا.

وكان فرنسوا باسيل من أوّل المصرفيّين الذين شجّعوا مؤسّساتهم على دخول السوق العراقية من خلال إنشاء فرع لبنك بيبلوس في إربيل عام 2006، ثمّ فرعين آخرين في بغداد والبصرة، هذا إضافةً إلى إنشائه عام 2007 بنك بيبلوس أرمينيا وعام 2010 بنك بيبلوس الكونغو الديمقراطية.

لبنان البداية والنهاية

فرنسوا باسيل رجل عصاميّ بنى برج النجاح بالكدّ والسهر، لكنّه في الوقت نفسه ثوريّ لا يتبنّى الأفكار المعلّبة ولا يهوى الديكتاتورية، بل يسعى في جميع مفاصل حياته إلى الإصغاء سعياً لتطبيق الأفكار المبتكرة والبنّاءة، سواء داخل المصرف الذي يديره أم في المجتمع الذي ينتمي إليه.

وما من شيء أحبّ إلى قلبه من العيش بالقرب من الناس ومشاكلهم. وهو في العمق رجل سياسة لكن بثوب مصرفيّ يكرز بكتاب الإنماء ويضع المسؤولية الاجتماعية عنواناً لبنك بيبلوس.

كانت تلك الساعة الصغيرة على مكتب فرنسوا باسيل يعلو صوت تكّاتها كلّما صمت هو لاستذكار حدث، وكأنّ بينهما عهداً لمقايضة الثواني بالإنجازات.

لكنّها في نهاية الحديث أنصتت لتسمعه يقول: "في بداية المشوار كنت أحلم بتحويل تلك الشركة الصغيرة إلى أحد أكبر المصارف في لبنان، وبعد أن حقّقت ذلك، أحلم اليوم بأن نتساعد جميعاً من أجل أن يبقى لبنان دولة وليس دويلات، أن يبقى وطناً لنا جميعاً، لأنّنا وُلِدنا هنا، وهنا نريد أن نموت". التعليقات